مساحة إعلانية
كان خالد يحضّر رسالة الماجستير في الإعلام في إحدى الجامعات العربية، وعندما اقترح على الأستاذ الدكتور المشرف - وكان رجلاً ذا علم وثقافة ودين - عنوان الرسالة "استخدام التكنولوجيا في الإعلام"، سُرّ الأستاذ جداً بالعنوان وأعطاه الضوء الأخضر لبدء خطة البحث.
بدأ خالد رحلته البحثية بحماس كبير، لكن ما اكتشفه جعله يغرق في دوامة من الإحباط والمرارة. وجد أن الشركات العالمية المنوط بها تطوير التكنولوجيا قد نسجت خيوط شبكة محكمة، ونحن كعرب لم نكن سوى فرائس سهلة في هذه الشبكة - نكتفي بدفع ثمنها كمستخدمين فقط لبعض إمكانياتها، وكنوع من الفشخرة ليس أكثر.
كان الأمر أشبه بلعبة قطة وفأر لا تنتهي. كلما بدأنا في فهم التكنولوجيا واستيعابها، تضيف الشركات إليها مزيداً من الإضافات وتصدر منها الجديد، فنتصارع لاقتنائها مرة أخرى، وهكذا دواليك في حلقة مفرغة من الاستهلاك الأعمى.
لكن المأساة الحقيقية لم تكن في البحث النظري، بل في واقعه اليومي. كانت مشكلته الكبرى مع سيارته الحديثة التي بدأت تغازل الميكانيكي بأعطالها المتكررة والغامضة. الميكانيكي المسكين - مثله مثل كثيرين في بلادنا - لا يواكب العصر ولا يعلم خدعة الشركات الكبرى في أن مكسبها الحقيقي يكمن في قطع الغيار وليس في ثمن السيارة ذاتها.
وقف خالد عاجزاً أمام هذا الواقع المرير - لا حول له ولا قوة - وهو يجد نفسه في تبديل مستمر لقطع الغيار فقط دون إصلاح حقيقي للأجزاء، كما كان يتعامل مع سياراته العتيقة التي رغم بساطتها كانت أكثر صدقاً وأقل خداعاً.
جلس خالد ذات مساء أمام شاشة حاسوبه، يكتب الفصل الأخير من رسالته، والدموع تنهمر من عينيه صامتة. لقد فهم أخيراً معنى "فخ التكنولوجيا" - لم يعد الأمر مجرد عنوان أكاديمي، بل حقيقة مؤلمة يعيشها يومياً.
كتب في خاتمة بحثه: "إننا لم نصبح مستخدمين للتكنولوجيا، بل أصبحنا عبيداً لها. نركض خلف كل جديد دون أن ندرك أننا نحفر قبورنا الاقتصادية والثقافية بأيدينا. والأمرّ من ذلك كله أننا نفعل ذلك بفخر واعتزاز."
أغلق الحاسوب وأطفأ الأنوار، تاركاً وراءه رسالة ماجستير مكتملة، ولكن قلباً محطماً يدرك أن المعرفة أحياناً تكون أثقل من الجهل، والحقيقة أقسى من الوهم.