مساحة إعلانية
بقلم خالد العجيري
باحث بالمعهد العالي للفنون الشعبية
اكاديمية الفنون
ليس هناك ما يخضع للصدفة عند الشعوب البدائية، إذ يرى الإنسان البدائي أن لكل ظاهرة أسباب من واجبه أن يدركها حتى يستطيع العيش والاستمرار في الحياة، لذا كان لابد أن يجعل لكل ممارسة طقسا يعبر من خلاله إلى المرحلة التالية، فالممارسات الشعبية الخاصة بالشعر، وكذلك المعتقدات الدافعة نحو إقامة طقوس أثناء تصفيف الشعر أو حلاقته أو قصه، هدفها الأول والأخير المحافظة على الروح التي تسكن الرأس البشرية ـ حتى أفلاطون وأرسطو طاليس كانوا يعتقدون أن لكل كائن شيء موجود في اعماقه كنواه غير مرئية ـ فكان من الواجب المحافظة على الرأس من الأمراض سواء الخارجية مثل الطفح الجلدي أو داخلية مثل الإصابة بالجنون أو الخوف من استخدام الأعداء لقصاصات الشعر في عمل السحر عند البدائي، وقد تكون إطالة الشعر مخالفة لديانات سابقة أو تشبه بالشخصيات الدينية وقد يخضع قص الشعر أو تقصيره لطقس ديني.
بعض الممارسات البدائية
يقول جيمس فريزر: ـ (يعتقد السيامي أن روحا تدعى ( خوان ) تسكن الشعر البشري وهي الروح الحامية لذا ترافق عمليات قص الشعر طقوس عديدة، حتى لا تنتقم الروح من الشخص الذي أزعجها ). كما أن البدائي مؤمن بوجود علاقة بينه وبين أي جزء من جسده، حتى بعد انفصال هذا الجزء فيزيائيا، وأنه قد يعاني من أي أذى تتعرض له تلك الأجزاء، أو ربما تقع في أيدي أشخاص يخضعونها لسحر يؤدي إلي إيذائه أو موته، فكان يتغلب على هذا بعدم قص الشعر وفي حالة الاضطرار لحلقه أو قصه، وجب عليه دفنه في مكان لا يعرفه أحد أو في مقابر جماعية كان متعارف عليها عند بعض الأمم، ويحرم على أي أحد دخولها إلا بغرض دفن شعره. أما بعض قبائل الزنوج في أفريقيا فإن الكهنة لا يحلقون شعر رؤوسهم طوال حياتهم، لأن الإله الذي يعيش بداخله يمنع قص الشعر، وإذا قام بقص شعره فإنه يصبح غير قادر على القيام بالأمور الخارقة، كالقدرة على صنع المطر. وعند الألمان القدامى عندما يحلق شعر الأطفال للتخلص من الطفيليات تترك بعض الخصلات على ناصية رأسه كملاذ لروح الطفل، وإلا ما وجدت الروح مكانا تستقر فيه، وهذا قد يسبب المرض للطفل .
أغرب الطقوس والمعتقدات
يقول جيمس فريزر: ـ ( كان قائد ناموسي في فوجي يأكل رجلا بعد قص رأسه، وكان على عشيرة معينة أن تقدم الضحية، ويجلسون في مجلس مقدس ليختاروا الضحية، ويعتبر هذا احتفالا لإبعاد الشر عن القائد ). كما يتخيل بعض البشر أنه إذا حصل فأر على قصاصات شعرهم وبنى به عشه، ربما يعاني ذلك الشخص من الصداع أو يصاب بالجنون. ويعتقد آخرون أنه إذا حصلت الطيور على قصاصات شعرهم وبنت منه أعشاشها، فإن صاحب الشعر يعاني من صداع وفي أحيان أخرى يصاب رأسه بطفح جلدي، وتذهب بعض الأمم إلى أبعد من ذلك بكثير، إذ تعتقد أن قص الشعر إن لم يتم في طقس معين قد يحرك بعض الظواهر الكونية، مثلما يعتقد بعض البشر في أوربا القديمة أن الشعر المتساقط مع المشط يمكن أن يشوش الطقس ويسبب المطر والبرد، والرعد والبرق، لذا كانوا يقرأون رقية معينة في أثناء التمشيط لمنع وقوع ذلك. كما أن بعض السحرة في أوربا يستخدمون الشعر المتساقط من المشط مع المشط لصنع زخات المطر والعاصفة، وهناك اعتقاد مقارب عند بعض الهنود أن الطقس العاصف نتيجة لتصرف متهور من فتاة مشطت شعرها خارج المنزل، لذا في مرتفعات اسكتلندا يمنع على الأخوات أن يمشطن شعورهن ليلا إذا كان لهن أخ مسافر في البحر.
ممارسات اعتقادية خاصة بالطفل
في سيامي عند قص العقدة الرأسية لطفل، يرافق ذلك طقوس عديدة، حيث تجمع الشعرات الصغيرة وتوضع في وعاء صنع خصيصا من موز الجنة ويلقى الوعاء في أقرب نهر لكي يطفو، وعندما يبتعد الوعاء مع ماء النهر، فسوف يبتعد المزاج السيء والنزعة العدوانية عن الطفل. كما كان يعتني الأتراك القدامى وكذلك البيرو عناية فائقة بالحفاظ على الشعر المقصوص أو المتساقط مع المشط إذ يضعونه في شقوق الحائط أو في كوات في الجدران، ليستخدموه فيما بعد في بعث الجسد من جديد. بينما هناك شعوب لا تهتم بذلك أذ يقول يوليوس ليبس: ( يعتبر تقصير الشعر عند الهندوس إشارة تقليدية للترمل ).
ممارسات مرتبطة بالآلهة
أما الشعوب التي تؤمن بوجود الآلهة، يكون الاهتمام بالشعر الذي ينبت في بعض الأماكن من الجسد قداسة، وفي أماكن أخرى تهذيبه وشياكة، وفي بعض مناطق الجسد إزالته واجب فطري، فعند الفراعنة يستوي الرجال والنساء في حلاقة الشعر، ويصنعون بدلا منه غطاء للرأس من الشعر المستعار، كما يحلق الرجل ذقنه، وكل ذلك عندهم يعتبر من النظافة، وقلدهم في ذلك الرومان، وفي ذلك يقول هيردوت: ( يطيل كهنة الدول الأخرى شعورهم أما كهنة مصر فيحلقون رؤوسهم، وفي عادات جميع بلاد العالم أن يحلق الناس شعورهم حداد على الأقارب، أما المصريين فيتركون لحاهم وشعورهم تطول عندما يموت قريب لهم ).
كانت إطالة الشعر عند اليهود ولفه على شكل جدائل من العلامات المميزة لهم، كما تميزت الكنيسة الأرثوذكسية بإطالة الشعر عند الرجال كمتابعة للتعليمات اليهودية ومخالفة للشعر المقصوص عند الوثنيين الرومان، وفي الإسلام تعتبر إطالة الشعر سنة ثابتة وتشبها بهيئة الرسول، أما حلق الشعر أو تقصيره شرط من شروط التحلل من الإحرام للمعتمرين والحجاج.
أما جداتنا في العصر الحديث، فكانت تضع قماشة بيضاء عند تسريح شعرها( بالفلاية الخشبية ) حتى تستطيع جمع الشعر المتساقط ووضعه في شقوق الحائط، خوفا من يدوسه أحد بقدمه فتصاب بتساقط الشعر المستمر ويصل بها الحال إلى مرحلة الصلع، وعنما يتزاحم شعرها في الشقوق تجمعه في كيس وتلقي به في نهر النيل، حتى يصبح شعرها غزيرا مثل ماء النهر، كما أنها تحتال على الشعر المجعد القصير، إذ تقوم بقص قدر قلامة ظفر منه في الأيام البيض وهي أيام الثالث عشر والرابع والخامس عشر من الشهور القمرية والتي يكون القمر فيها بدرا، وتلقي به في النيل لاعتقادها في أنه سوف يكتسب ملمسا ناعما وينبت بشكل أسرع وأغزر.
نستطيع أن نقول في النهاية أن الممارسات الاعتقادية الخاصة بإطالة الشعر ـ لمخالفة ديانات سابقة أو تشبه بشخصيات دينية ـ أو تصفيفه بطريقة ما أو قصه للتخلص من الطفليات أو اتباع أوامر دينية حتى وإن بدت خرافية، تتشابه عند بعض المجتمعات سواء البدائية أو المتدينة، حتى وإن اختلفت بعض الطقوس المصاحبة لعملية التصفيف أو القص، لكنها تلتقي جميعا في نقطة واحدة، الا وهي المحافظة على صحة الإنسان ومظهره الخارجي.
المصادر
1 ـ جيمس فريزر، الغصن الذهبي دراسة في السحر والدين، ترجمة أحمد أبو زيد، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر القاهرة 1971.
2 ـ يوليوس ليبس، أصل الأشياء، ترجمة كامل اسماعيل، دار المدى للثقافة والنشر 2006.
3 ـ ا. ج إيفانز، هيرودوت، ترجمة أمين سلامة، الدار القومية للطباعة والنشر.