مساحة إعلانية
في زمن صار الإعلام فيه سلاحا والخبر قنبلة موقوتة والتزييف مشروعًا عابرا للقارات تخوض القاهرة معركة من نوع مختلف. إنها معركة الوعي. معركة لا تُدار بالدبابات ولا تُحسم بالمعاهدات لكنها ترسم المستقبل وتكتب التاريخ الحقيقي حرفا بحرف وصورة بصورة ورؤية برؤية.
ليس سرا أن العواصم تُقاس بأدوارها لا بأحجامها وأن صخب المشهد لا يعني شيئا إن لم يكن الصوت حقيقيّا. في هذا السياق تبرز القاهرة لا كمجرد مدينة بل كراوية حقيقية لما يجري. لا تكتفي بنقل الحدث بل تُصر على إعادة سرد الرواية من أولها من جذورها من تحت الركام من خلف المونتاج الذي يصنعه الآخرون خصيصا لتزوير الوعي العربي ولفرض خرائط جديدة في أذهان الشعوب قبل أن تُرسَم على الأرض.
في معركة غزة كانت الصورة واضحة. حملات التضليل المنهجي ومقاطع الفيديو المجتزأة والمواقف المُعدّة مسبقا على طاولات صناعة الفوضى. لكن القاهرة، بخبرتها، وصبرها، وشبكة إدراكها المعمّقة، لم تكن طرفا في المشهد ، بل كانت المخرج الذي يعيد ترتيب اللقطات ويُعرّي من أرادوا صناعة فيلم رديء بعنوان "الواقع".
لم تسكت القاهرة حين صمت البعض ولم تساير العواصف الإعلامية بل مارست دورها التاريخي كضامن للمنطق وكقوة توازن عقلانية في إقليم بات أغلبه يُدار بالغرائز وردود الفعل.
لقد أيقنت مصر مبكرا أن ما يُحاك في الكواليس أخطر مما يُذاع في النشرات وأن المعركة الحقيقية ليست فقط في ميادين القتال بل في شاشات التحريض وغرف البث وعناوين الأخبار الموجهة. لذلك كانت جهودها في وقف إطلاق النار وفتح المعابر واستمرار إرسال المساعدات لغزة ليست فقط دعما إنسانيا بل تكذيبا عمليا لصورة أرادها الآخرون أن تكون: "عرب يقتلون عربا".
تخوض مصر معركة الوعي في الداخل أيضا حين تفتح الملفات وتناقش القضايا وتُصرّ على تفكيك الأكاذيب التي تُضخ كل لحظة في العقول. لا أحد يملك رفاهية الغفلة اليوم ومن لم يواكب الوعي خُدع ، ومن لم يصنع روايته كُتبَت له رواية مشوّهة.
تدرك القاهرة أن الهوية ليست شعارا وأن الصراع الإعلامي قد يكون أخطر من الصراع العسكري لذلك انطلقت في السنوات الأخيرة في تطوير أدواتها الإعلامية والثقافية واستعادت زمام المبادرة في سرد القصة المصرية من الاقتصاد إلى الأمن ومن التحديات الإقليمية إلى العلاقات الدولية.
وفي لحظة فارقة كهذه التي يمر بها الإقليم تأكد أهمية العقل المصري والوزن المصري والضمير المصري. فحين تتحدث القاهرة لا تتحدث لتزايد ولا لتبرر بل لتزن الأمور بمقياس الدولة ذات الذاكرة الثقيلة والخبرة الممتدة والمسؤولية التي تدرك أن قيادة الوعي أصعب من قيادة المدافع.
إن من يملك القدرة على كشف المونتاج لا يخشى الصورة ومن يكتب الرواية لا يخشى السرد ومن يصنع الوعي لا يحتاج إلى صراخ.
هكذا كانت مصر وهكذا ستظل: عينٌ ترى الحقيقة وعقلٌ يُدرك عمقها وصوتٌ لا يعلو عليه في لحظة العصف.