مساحة إعلانية
في عالم الاقتصاد لا تُبنى الثروات بالصدفة ولا تنهض الأمم من فراغ بل من معادلة دقيقة العناصر قوامها: الثقة، والاستقرار والأمان. كثيرون يتحدثون عن جذب الاستثمار وعن تحفيز رؤوس الأموال ، لكن القليل فقط من يدرك أن الأمان هو الاستثمار الحقيقي الأول ، وأن الثروة لا تطرق أبواب المجتمعات المضطربة ، ولا تعيش في بيئة مضطربة ، مهما كانت حافلة بالمقومات.
فمن يُراكم رأس المال؟
ومن يحفّز المستثمر؟
ومن يجعل المال يتحول إلى تنمية والتنمية إلى رخاء؟
الإجابة ليست في قوانين الجذب وحدها بل في مناخ شامل من الأمان السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، يطمئن فيه المستثمر على ماله، والمواطن على مستقبله، والدولة على سيادتها.
ليست المصانع وحدها هي التي تُنتج الثروة بل العقول التي تفكر في ظل بيئة آمنة والقرارات التي تُتخذ دون ضغوط أو فوضى. ولهذا حين ننظر إلى أي نموذج ناجح حول العالم ، لا نجد البداية من القروض أو التمويلات بل من بناء ثقة المجتمع بنفسه وثقة الخارج في استقراره.
في مصر لم تكن الانطلاقة الاقتصادية في السنوات الأخيرة وليدة لحظة أو مبادرة منفردة ، بل نتيجة لتحولات أعمق بدأت من استعادة الدولة لهيبتها، وتثبيت أركانها، وتوفير بيئة آمنة للعمل والإنتاج. فبدون الاستقرار لا توجد تنمية مستدامة ولا مشاريع طويلة الأجل ولا خطط طموحة تنجح على الأرض.
إن الأمان ليس مجرد حالة أمنية بل مفهوم شامل يشمل وضوح الرؤية، وشفافية القرار، وثبات الاتجاه. فالمستثمر لا يهرب من الضرائب بل من الغموض. لا يخشى التحديات بل يخشى التقلبات. ولهذا كانت مصر حريصة على تثبيت البنية التحتية ليس فقط للطرق والكهرباء والمرافق بل البنية العقلية للاستثمار: منظومة تشريعية مرنة، وشراكة جادة مع القطاع الخاص، وإرادة سياسية لا تعرف التردد.
ولعلنا اليوم نرى ثمار هذا الطريق بثبات. فالمنطقة الاقتصادية لقناة السويس والعاصمة الإدارية الجديدة ومشروعات الطاقة العملاقة والمدن الصناعية الحديثة كلها لم تكن ممكنة لولا وجود مناخ من الاستقرار والسيادة والاتزان. لم تأت الاستثمارات الخليجية والآسيوية والأوروبية إلى مصر مجاملة بل رهانا على بلد يعرف كيف يحمي نفسه ويحمي رؤوس الأموال معا.
إن مناخ الاستثمار لا يصنعه الإعلان بل يصنعه الأداء. ومن يظن أن رأس المال بلا بوصلة لم يقرأ تاريخ الأسواق. فالأموال تتبع الأمان والأمان يبدأ من الداخل: من تماسك القرار وقوة المؤسسات وكفاءة الإدارة.
نحن نعيش اليوم في عالم مضطرب حروب إقليمية تقلبات مالية وصراعات تجارية عابرة للحدود. وفي هذا المشهد تبرز قيمة الدول التي تحافظ على صلابتها. والدولة التي تُصدّر الأمان تُصدّر التنمية معها ، وتجذب الشركاء لا العملاء والمستثمرين لا المقامرين.
ولهذا فإن من يتحدث عن الثروة عليه أولا أن يفهم جوهرها. فالثروة ليست مالاً فقط بل ثقة تُبنى ، وسمعة تُصان وصورة ذهنية تُرعى بعناية. وعندما يشعر المستثمر أن هذه الدولة تحميه وتحترمه فإنه يتحول من ضيف مؤقت إلى شريك دائم ومن ممول إلى صانع ثروة على أرضها.
وفي هذا السياق تأتي رؤية مصر الاقتصادية الجديدة متكاملة حيث تعمل على إصلاحات هيكلية وتحرير الطاقة الكامنة في قطاعات كانت مهمشة مثل الزراعة والصناعة والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا إلى جانب الموانئ والتحول الرقمي والاقتصاد الأخضر. لكن كل هذا لا يمكن أن يؤتي ثماره دون أمان حقيقي: سياسيًا، اقتصاديا، واجتماعيا.
فمن يصنع الثروة إذن؟ إنه من يصنع مناخا مستقرا وعدالة واضحة، ومؤسسات تحكمها القواعد لا الأهواء. إنه من يدرك أن الاستثمار الحقيقي يبدأ من احترام العقول قبل الأموال ومن حماية الفكرة قبل الماكينة، ومن إشراك المواطن قبل إشراك الشركاء الدوليين.
لقد أثبتت التجربة أن الاستثمار لا يُفرَض، بل يُختار. والمستثمر لا يُقاد بل يُقنَع. والمجتمعات لا تنهض فقط بالتمويل، بل بثقافة إنتاج تُغرس، ونظام راسخ يُبنى، ورؤية وطنية تُؤمن بأن الاستقرار ليس خيارا بل شرط وجود.
إن الأمان هو البنية التحتية الحقيقية التي لا تُرى، لكنها تحمي كل ما يُبنى فوقها. وهو الثروة التي لا تُقيَّم بالدولار لكنها تجذب كل دولار. ومن هنا فإن مصر حين اختارت طريق الإصلاح والاستقرار كانت تبني الثروة من جذورها لا من قشورها .