مساحة إعلانية
للعيد زمان في مصر طقوس ومظاهر متعددة تتشابه في ربوعها، وفي زهرة بالمنيا بصعيد مصر كانت الطقوس والعادات متشابهة أيضًا. ورغم مرور الأيام وتغير العادات، إلا أنَّ ذكريات العيد زمان دائمًا ما يأخذنا الحنين إليها عند كل عيد. نتذكر ونحن أطفال أنه عندما فتحنا أعيننا على الدنيا وأدركنا كلمة "عيد"، ارتبطت في أذهاننا بشراء أمتار القماش والذهاب بها إلى الخياط قبل العيد بشهر على أقل تقدير، كي يفصل لنا جلباب العيد، أو الذهاب إلى المدينة وشراء بنطال وقميص من شركة بيع المصنوعات المصرية.
وعندما نستلم الجلباب الجديد أو ما اشتريناه من ملابس جديدة كنا نفرح بها، ونتردد على رؤيتها من الحين للحين، منتظرين بفارغ الصبر كي نرتديها يوم العيد فرحين بها، متشوقين لارتدائها والتباهي بها بين أقراننا. كنا نجهزها ليلة العيد لارتدائها صباحًا فرحين بها جدًا، خائفين عليها من أي كرمشة، نضعها أمام السرير في الغرفة. وعند الصباح، كنا نستحم أولًا ونلبسها فرحين جدًّا.
وعندما كبرنا وصرنا صبية وفتيان، كنا نجتمع في الليلة الكبيرة مع الأصحاب والأصدقاء، نلعب ونتسامر ونتفق على سهرة صباحية أمام المنازل. نفترش الحصير ونجلس نتسامر حتى مطلع الفجر، ثم نذهب للمسجد في مجموعات كبيرة من الأطفال والصبية والشباب والرجال، نهلل: "الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا" حتى صلاة العيد.
ثم نخرج من المسجد مسرعين لمنازلنا لأخذ العيدية من النقود. وتمتلئ الشوارع بالمارة رجالًا ونساءً متوجهين لزيارة قبور القرية، وكأنَّ القرية خرجت كلها عن بكرة أبيها. النساء بزيهن الأسود الشاحب الذي لا يتغير لونه، فهو الزي الرسمي للنساء في هذا الوقت، يحملن على رؤوسهن (السبت أبو ودنين) وهو عبارة عن وعاء بأذنين مصنوع من الغاب، محمل بالفطائر وبعض الفاكهة لتوزيعها صدقات أمام القبور. أما الرجال، فيرتدون زيهم الأبيض أو أي لون آخر جديد، يتقدمون النساء لقطع الجريد والسعف من النخيل لوضعه على القبور ترحما عليهم، لاعتقاد الناس أنها سنة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم لتخفيف حساب الأموات وكونها بردًا وسلامًا على قبورهم.
وكانت المقابر وقتها بعيدة عن القرية بما يزيد عن كيلو متر مربع ناحية الجنوب، وسط الزراعات والنخيل الكثيف الذي كان يحفها من كل اتجاه بجوار نهر النيل. كنا نمر وسط الزراعات على حافة قناة من المياه كنا نسميها "الفحل" حتى نصل إليها في مكانها البعيد الصامت، إلا من أصوات العصافير واليمام وأصوات الكلاب الضالة.
كانت هذه الزيارة مقدسة عند كل الأهالي صغيرًا وكبيرًا، رجالًا ونساءً. نمكث في المقابر بعد صلاة العيد لمدة ساعة أو أكثر، يلتف كلٌّ منا حول قبر العائلة أو حبيب أو صديق. وكانت تعج ساحة المقابر ببعض زائري القبور من النساء وصرخاتهم على الراحلين، وكأنهن نسين أنها لحظات عيد وفرح. تعودنا على البكاء والنواح في هذه اللحظات التي يختلط فيها الحزن بالفرح.
وعلى ناصية المقابر يقف بائعو العسلية والزمامير والنفخات وبعض لعب الأطفال من الصفيح أو البلاستيك، منتشرين حول المقابر. فنذهب ونشتري منهم فرحين، ونظل على هذه الصورة: سواد الشالح من النساء بزيهن الأسود، وصوت صرخاتهن، وصوت صفير الأطفال بزماميرهم أو طبولهم الصغيرة، وبزيهم الجديد المبهج. فرح الشباب والشابات الحالمين والمتطلعين للحياة، وكل ما يفعله الناس في العيد هو صلاة العيد وزيارة القبور، حيث يزور كل الأموات الأقرباء والأحباب فيجوبون المقابر من أولها إلى آخرها.
أمَّا رجال القرية، فمنهم من يتوجه لزيارة القبور، ومنهم من يجلس في منزل العائلة لاستقبال المعيدين من الأهل والجيران. ثم تعود القرية كلها من زيارة القبور، متصافحة في الشوارع مع المارة، مرددين: "كل عام وأنتم بخير"، حتى تخلو شوارع القرية ويلزم كل منهم منزله. إلا من الأطفال والصبية والشباب الذين يظلون في الشوارع يلعبون ويلهون مع بعضهم البعض أمام البائعين، ويشترون الحلوى "والبومب" لفرقعته في الشوارع، حتى أذان الظهر. وكأن العيد انتهى بعد ساعات الصباح.
وتسكن القرية كلها في قيلولة، ثم تجتمع لتناول الغذاء بأكل الفتة واللحمة من الوز أو البط أو الفراخ البلدي، ويعود الفلاحون للأرض والزراعة والعناية بالمواشي وإحضار الحشائش لها. وفي المساء، يتزاور الأهل للمعايدة على بعضهم حتى اليوم الثالث، قائلين: "بعودة الأيام".
لم يكن هناك أي وسائل ترفيهية مثلما في المدينة. إلا تأجير "العجل" (الدراجات الهوائية) من العم: أحمد العسكري، واللف بها في القرية، أو أن نجري وراء بعضنا ونضرب "البومب"، أو نلعب بالمسدسات البلاستيكية، أو نجتمع لشراء البخت عند البائعين بالدكاكين كي نكسب لعبة مسدس أو عروسة بلاستيك صغيرة أو لعبة صغيرة، أو نلعب بالصواريخ الورقية فنشعلها بالكبريت حتى تسخن وتخرج شرارات من النيران المتناثرة أمامنا.
كنا نتوجه إلى مدينة المنيا لنشاهد بهجة العيد هناك وزحام الناس في الشوارع ووقوف العائلات بالبلكونات، وهي تلقي "البومب" في الشوارع، والكل سعيد، والضحكات عالية، والبنات يمشين في الشوارع كالأميرات بملابسهن المطرزة كنجوم الفن. أو دخول السينما لمشاهدة فيلم لـ بروسلي أو فيلم عربي، ثم نخرج من السينما لندخل مطعم كشري الحبايب في شارع الحسيني المبهج بالباعة والناس المارة، أو مطعم من مطاعم وجبات اللحمة والفراخ.
وكنا نفضل أكل طبق الكشري الذي كان لنا كالفاكهة لندرة المطاعم في القرية، أو أكلة الطعمية الساخنة بعيش السميط الساخن. ثم نتوجه لمحل حلواني الفلاح بميدان بلس لتناول طبق البسبوسة اللذيذ. ودخول محلات العصائر وشرب عصير القصب والفواكه. وهناك من كان يتوجه لاستوديو التصوير الفوتوغرافي لأخذ صورة تذكارية أبيض وأسود.
أو نتوجه لكورنيش النيل لركوب المراكب في النيل، ثم نذهب للمراجيح عند جامع العارف بالله الشيخ الفولي أبو سليمان، حتى نشعر بالتعب آخر النهار، فنذهب لموقف السيارات ننتظر وصول سيارة أجرة تنقلنا إلى قريتنا زهرة. كي ننام بعد تعب يوم وليلة قضينا فيها لحظات سعيدة ننتظرها من العيد للعيد.