مساحة إعلانية
علي مرِّ العقود، بقيت محافظة قنا تُدار سياسياً كما تُدار الممالك الوراثية، قواعد ثابتة، ووجوه مألوفة، وتحالفات تُعقد في العلن وتُفض في الظلّ. كانت الأصوات تُجمع كما يُجمع القطن من الحقول، في مواسم لا يأتي فيها الخريف إلا علي آمال البسطاء، الذين وجدوا أنفسهم محكومين بخيارات النُخب التي نصّبت نفسها أوصياء علي إرادتهم.
كانت السياسة في قنا، ولسنواتٍ طوال، مزيجاً من الزعامة القبلية وامتداد النفوذ العائلي. لم يكن الاقتراع سوي طقس اجتماعي يكتسي بثوب ديمقراطي هش، سرعان ما تنكشف هشاشته أمام حرارة المصالح، وضغوط المال، ومؤثرات الانتماء القبلي.
فالدوائر كانت مغلقة بإحكام، والمقاعد محجوزة سلفًا، والنتائج تُعرف قبل أن تُفتح صناديق الاقتراع.
لكنّ الزمن لا يخلد لوجهٍ دون سواه، والخرائط تُرسم من جديد حين تتبدل معطيات الأرض.
فمع كل ولادة جديدة، ومع كل صرخة في وجه التوريث السياسي، ومع كل نقرة إصبع علي شاشة هاتف ذكيّ، وُلد جيل لم يعترف بسطوة الاسم أو قدسية العائلة، جيلٌ تفتّح وعيه في فضاءات لا تخضع لمراقبة شيخ بلد أو عمدة أو نائب سابق.
هذا التحول الديموغرافي لم يكن مجرد زيادة سكانية في القري والنجوع، بل كان تحوّلًا في الوعي الجمعي.
أبناء التعليم، وروّاد المنصات الرقمية، وحاملو الحلم بالعدالة السياسية والفرص المتكافئة، بدأوا يفرضون أنفسهم علي مشهدٍ لم يتهيأ بعد لتقبّل التغيير.
باتت الخريطة السياسية تشهد ارتجاجًا عنيفًا، ليس مصدره اضطراب حزبي، بل يقظة جماعية لجيل اكتشف أن الخضوع ليس قدراً، وأن التبعية ليست صفة وراثية.
لم يعد الناخب ذلك المواطن البسيط الذي يُستقطب بصفيحة سمن أو وعد بوظيفة مؤقتة، بل أصبح صانع مشهد، مدركًا لقيمة صوته، باحثًا عن ممثل يعبر عنه، لا من يتحدث باسمه.
تحوّلت قنا من أرضٍ تُحكم بالأسماء إلي ساحة تتصارع فيها الأفكار.
وإن كان البعض ما يزال يقاتل للحفاظ علي مكانته بكل ما أوتي من مال أو نفوذ، فإن القادم من الزمن ينذر بانتهاء عصر “الاسم يكفي”، ويُبشّر بعصر “الفكرة أولاً”. هذا التغير الديموغرافي ليس وليد الصدفة، بل هو نتاج سنوات من الضغط، من الإقصاء، من الحرمان، من رؤية الآخرين يصعدون بينما يبقي الجنوب متربصًا في الظل.
hyasser10@yahoo.com